عمر بن الخطاب .. الخليفة الراشد ..
الذي نصر الدين .. وجاهد لرب العالمين .. وأطفأ نيران دولة المجوس ..
حقد عليه الكافرون ..
وكان من أكثرهم حقداً .. أبو لؤلؤة المجوسي ..
وكان عبداً نجاراً حداداً في المدينة .. وكان يصنع الرحاء .. جمع رحى وهي آلة لطحن
الشعير .. وهي حجران مصفحان يوضع أحدهما فوق الآخر ويطرح الحب بينهما .. وتدار
باليد .. فيطحن ..
أخذ هذا العبد يتحين الفرص للانتقام من عمر ..
فلقيه عمر يوماً في طريق فسأله وقال :
حدثت أنك تقول لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح ؟!
فالتفت العبد عابساً إلى عمر ..
وقال : بلى .. لأصنعن لك رحى يتحدث بها أهل المشرق والمغرب ..
فلتفت عمر إلى من معه .. وقال :
توعدني العبد ..
ثم مضى العبد وصنع خنجراً له رأسان .. مقبضه في وسطه .. فهو إن طعن به من هذه الجهة
قتل .. وإن طعن به من الجهة الأخرى قتل .. وأخذ يطليه بالسم ..
حتى إذا طعن به .. يقتل إما بقوة الطعن أو السم ..
ثم جاء .. في ظلمة الليل .. فاختبأ لعمر في زاوية من زوايا المسجد ..
فلم يزل هناك حتى دخل عمر إلى المسجد ينبه الناس لصلاة الفجر ..
ثم أقيمت الصلاة .. وتقدم بهم عمر .. فكبر ..
فلما ابتدأ القراءة ..
خرج عليه المجوسي .. وفي طرفة عين .. عاجله .. بثلاث طعنات ..
وقعت الأولى في صدره والثانية في جنبه .. والثالثة تحت سرته ..
فصاح عمر .. ووقع على الأرض ..
وهو يردد قوله تعالى : وكان أمر الله قدراً مقدوراً ..
وتقدم عبد الرحمن بن عوف وأكمل الصلاة بالناس ..
أما العبد فقد طار بسكينه يشق صفوف المصلين .. ويطعن المسلمين .. يميناً وشمالاً ..
حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً .. مات منهم سبعة ..
ثم وقف شاهراً سكينه ما يقترب منه أحد إلا طعنه .. فاقترب منه رجل وألقى عليه رداءً
غليظاً ..
فاضطرب المجوسي .. وعلم أنهم قدروا عليه .. فطعن نفسه ..
وحُمِل عمر مغشياً عليه إلى بيته .. وانطلق الناس معه يبكون ..
وظل مغمى عليه .. حتى كادت أن تطلع الشمس ..
فلما أفاق .. نظر في وجوه من حوله .. ثم كان أول سؤال سأله .. أن قال :
أصلى الناس ؟ قالوا : نعم ..
فقال : الحمد لله .. لا إسلام لمن ترك الصلاة ..
ثم دعا بماء فتوضأ .. وأراد أن يقوم ليصلي فلم يقدر ..
فأخذ بيد ابنه عبد الله فأجلسه خلفه .. وتساند إليه ليجلس ..
فجعلت جراحه تنزف دماً ..
قال عبد الله بن عمر .. والله إني لأضع أصابعي .. فما تسد الجرح ..
فربطنا جرحه بالعمائم .. فصلى الصبح ..
ثم قال : يا ابن عباس انظر من قتلني ..
فقال : طعنك الغلام المجوسي .. ثم طعن معك رهطاً .. ثم قتل نفسه ..
فقال عمر : الحمد لله .. الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط ..
ثم دخل الطبيب على عمر .. لينظر إلى جرحه .. فسقاه ماءً مخلوطاً بتمر ..
فخرج الماء من جروحه ..
فظن الطبيب أن الذي خرج دم وصديد .. فأسقاه لبناً ..
فخرج اللبن من جرحه الذي تحت سرته .. فعلم الطبيب أن الطعنات قد مزقت جسده ..
فقال : يا أمير المؤمنين .. أوص .. فما أظنك إلا ميتاً اليوم أو غداً ..
فقال عمر : صدقتني .. ولو قلت غير ذلك لكذبتك ..
ثم قال :
والله لو أن لي الدنيا كلها .. لافتديت به من هول المطلع .. يعني الوقوف بين يدي
الله تعالى ..
فقال ابن عباس : وإن قلت ذلك .. فجزاك الله خيراً ..
أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أن يعز الله بك الدين والمسلمين .. إذ يخافون
بمكة ؟
فلما أسلمت .. كان إسلامك عزاً .. وظهر بك الإسلام ..
وهاجرت .. فكانت هجرتك فتحاً .. ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم .. من
قتال المشركين ؟
ثم قبض وهو عنك راضٍ ..
ووازرت الخليفة بعده .. وقُبض وهو عنك راض ..
ثم وليت بخير ما ولي الناس .. مصّر الله بك الأمصار ..
وجبا بك الأموال .. ونفى بك العدو ..
ثم ختم لك بالشهادة .. فهنيئا لك ..
فقال عمر : أجلسوني ..
فلما جلس .. قال لابن عباس : أعد عليَّ كلامك ..
فلما أعاد عليه ..
قال : والله إن المغرور من تغرونه ..
أتشهد لي بذلك عند الله يوم تلقاه ؟
فقال بن عباس : نعم .. ففرح عمر .. وقال : اللهم لك الحمد …
ثم جاء الناس فجعلوا يثنون عليه .. ويودعونه ..
وجاء شاب ..
فقال : أبشر يا أمير المؤمنين .. صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم وليت فعدلت .. ثم
شهادة ..
فقال عمر : وددت أني خرجت منها كفافاً .. لا عليَّ ولا لي ..
فلما أدبر الشاب .. فإذا إزاره يمس الأرض .. فقال عمر : ردوا علي الغلام ..
قال : يا ابن أخي .. ارفع ثوبك .. فإنه أنقى لثوبك .. وأتقى لربك ..
ثم اشتد الألم على عمر .. وجعل يتغشاه الكرب .. ويغمى عليه ..
قال عبد الله بن عمر : غشي على أبي فأخذت رأسه فوضعته في حجري ..
فأفاق .. فقال : ضع رأسي في الأرض ثم غشي عليه فأفاق ورأسه في حجري ..
فقال : ضع رأسي على الأرض ..
فقلت : وهل حجري والأرض إلا سواء يا أبتاه ..
فقال : اطرح وجهي على التراب .. لعل الله تعالى أن يرحمني ..
فإذا قبضت .. فأسرعوا بي إلى حفرتي ..
فإنما هو خير تقدموني إليه .. أو شر تضعونه عن رقابكم ..
ثم قال : ويل لعمر .. وويل لأمه .. إن لم يغفر له .. ثم ضاق به النفس .. واشتدت
عليه السكرات .. ثم مات عليه السلام....
ودفنوه بجانب صاحبيه ..
نعم .. مات عمر بن الخطاب .. لكن مثله في الحقيقة لم يمت ..
قدم على أعمال صالحات .. ودرجات رفيعات ..
صاحبه في قبره قراءته للقرآن .. وبكاؤه من خشيته الرحمن ..
تؤنسه صلاته في وحشته .. ويرفع جهاده من درجته ..
تعب في دنياه قليلاً .. لكنه استراح في آخرته طويلاً ..
بل قد عده النبي صلى الله عليه وسلم من العشرة المبشرين بالجنة ..
بل قد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً :
بينا أنا نائم رأيتني في الجنة .. فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر .. فقلت :
لمن هذا القصر ؟ قالوا : لعمر .. فذكرت غيرته فوليت مدبراً ..
فبكى عمر وقال : أعليك أغار يا رسول الله !! ..